يردد المسؤولون ومواطنو كل من السعودية ومصر، أنهما بلدان شقيقان، وأن علاقتهما ببعض في غاية الأهمية. وطبعا، يؤكد ذلك سلسلة غير قليلة من المواقف والسياسات المعلنة، بداية من «رمزية» أن الزيارة الخارجية الوحيدة التي قام بها مؤسس المملكة العربية السعودية كانت لمصر، مرورا بمواقف هائلة من الدعم والتعاون والتكامل بين البلدين، عبورا بكل العهود والرؤساء والملوك، على الرغم من حصول بعض المواقف العصيبة التي أدت إلى خلاف عميق وصل للقطيعة السياسية أحيانا، ولكن الحكمة وإدراك مغزى معنى المصير المشترك كانا يعيدان المياه لمجاريها بشكل سوي وعقلاني. وظهر هذا المبدأ مجددا حينما انحازت السعودية مؤخرا بشكل كبير لمتطلبات الجمهور المصري العريض الذي نزل إلى الشوارع بالملايين، وأيدته في ذلك مؤسسته العسكرية، وكانت أولى الدول التي أعلنت موقفها الداعم لاختيار الشعب المصري الجديد، ووقفت بكل قوتها وثقلها تدعم هذا الخيار بشكل سياسي ودبلوماسي وإعلامي واقتصادي كبير. وبات هذا التوجه ركن حجر أساسي في السياسة الخارجية السعودية، كما أصبح واضحا مع مرور الوقت، ولكن يتبقى أن ينتقل هذا الحس العالي بأهمية العلاقات بين البلدين إلى أرض الواقع من الناحية الاقتصادية. الملف الاقتصادي لا يزال «مشكلة» تعوق تطور العلاقات بشكل استراتيجي كما يليق بالطموحات السياسية. هناك مجموعة كبيرة من المشكلات العالقة لأكثر من مستثمر وأكثر من شركة سعودية في مصر، وهي «معلقة» منذ أوج العلاقات مع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والذي كان النظام وقتها يتعامل بأسلوب متقلب مع ملف الاستثمار السعودي، يحذر من «استيلاء المال الخليجي» على التراث المصري في إعلامه الرسمي المملوك للدولة، ويتعرض للشركات السعودية بالنقد الشديد. ومن جهة أخرى، يرسل وفودا رسمية لدعوة رجال الأعمال السعوديين للاستثمار في مصر. وطبعا، كان في ذلك تناقض خطير أدى إلى شرخ في الثقة الاقتصادية. واليوم مع الوضع السياسي الجديد، بات هذا المطلب أكثر دقة وحيوية، ولا بد أن ينظر إليه بمنظور وفكر مختلف تماما، وأن يندرج تحت الهيكلية المؤسساتية في العلاقات بين البلدين، بعيدا عن جهود أشخاص بعينهم ووساطاتهم لحل العقبات والعقد والمشكلات، كما هو حاصل الآن، لأن كل النيات الطيبة والمبادرات الإيجابية لم تنعكس بالإيجاب على مناخ الأعمال بين السعوديين والمصريين كما يجب، لأن المشكلات المعلقة الخاصة بالمستثمرين السعوديين لا تزال بلا حل قطعي، وهناك «خوف» و«روتين» غير مفهومين، ولا مبرر لإنهاء الأمور المعلقة والخاصة بالأنظمة وبالعمالة والأراضي، وغيرها من المسائل المختلفة. وآن الأوان للملف الاقتصادي السعودي أن يأخذ شكلا نظاميا جديدا مع مصر، فالبلدان مطالبان باستحداث اتفاقية «استثنائية» تنظم العلاقات الاقتصادية بينهما وتجعلهما يصنفان بعضهما البعض بمثابة الدولة المفضلة (Preferred Nation). وكما عقدت مصر قديما اتفاقية المنطقة التجارية المميزة مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وعرفت بعد ذلك باتفاقية الكويز. هذه النوعية من الامتيازات في العلاقات الاقتصادية من باب أولى أن تكون بين البلدين، مصر والسعودية، حتى تكون هناك ترجمة «اقتصادية» حقيقية لفكرة العلاقة الاستراتيجية والعلاقات الأخوية والعلاقات المهمة. هناك رؤوس أموال هائلة سعودية استثمرت في مصر منذ أكثر من أربعة عقود، وهناك جالية سعودية هي الأكبر في المهجر تعيش في مصر ولها استثماراتها، وهناك علاقات مصاهرة بين البلدين. وطبعا، هناك أعداد مهمة من الكفاءات المصرية تعمل في السعودية منذ فترة ليست بالقليلة. وكذلك الأمر دخول عدد غير بسيط من الشركات المصرية الكبيرة إلى السوق السعودية في مجالات المقاولات والبنية التحتية والخدمات والتجارة والتصنيع، وبالتالي هناك كم «هائل» من المصالح التي تحتاج إلى إطار «جديد» لرعايتها يأخذ في عين الاعتبار الواقع السياسي الجديد الذي تسير فيه المنطقة، والذي انعكس بصورة مهمة جدا على علاقتي البلدين ببعضهما البعض. التحدي الأهم والذي سينقل العلاقة المحورية بين البلدين إلى علاقة ذات فوائد وذات عوائد يستشعر بها عدد غير بسيط من طبقات الشعبين وفي قطاعات مهمة هو تفعيل العلاقة الاقتصادية بشكل مؤسساتي بعد إصلاح هيكلي في العلاقة «النظامية» و«القانونية» التي كانت تحكمها لأنه اتضح مع مرور الوقت أنها كانت عقيمة وغير عملية، وغير فعالة، وكانت دوما مضرب الأمثال في العقد والصعوبات. والدي كان من أوائل المستثمرين الذين أقدموا على الاستثمار في مصر مستغلين المناخ السياسي الإيجابي بين البلدين منذ عقود طويلة، أتذكر يوما جلسته وهو يتأمل ويتنهد ويشكو من صعوبات وتعقيدات العمل في مصر، وهو الذي كان له علاقات ومعارف كبيرة، ومع ذلك كانت الشكوى الأليمة. قال وقتها بابتسامة حزينة: «الله سبحانه وتعالى قال على مصر (ادخلوها بسلام آمنين)، ولكن لم يعلمنا كيف نخرج منها»، وذلك في تعليق على تعقيدات وإجراءات إدارية أعاقت الاستثمار ومناخه. اليوم زمان مختلف، ولم يعد هناك خيار حقيقي أمام السعودية ومصر سوى تأسيس اتفاق اقتصادي غير مسبوق بين البلدين يرفع درجة العلاقة إلى مستوى مصيري ينعكس على كل القطاعات، ومن دون ذلك سيبقى الأمر كلاما معسولا وشعارات مثالية لا غير.