روبرت فيسك : زهور مشتتة
هل مرت الصحوة العربية – أو الربيع العربي كما نسميه الآن – بأوقات عصيبة يائسة دامية كما نشهد اليوم ؟ ، أنا أشير إلي ذلك الكرب الذي شتت العالم العربي لدرجة أنه لم ينتبه، ولم يتذمر عندما أعلن العالم الغربي بالحداد علي مجرم الحرب السابق أريل شارون، ونعيه في نهاية هذا الأسبوع، ووصفه بـ "المبدع"، و"الأسطوري"، و"الجريء"، و"البلدوز"، وأيضا "الجنرال الصهيوني فخر إسرائيل".
وبشكل لا يصدق قامت مذيعة قناة "الجزيرة" الانجليزية بتقديم "خالص تعازيها" لوفاة شارون، ووصفته بـ "الصديق الإسرائيلي".
وعندما نقلت القناة تقرير لجنة كاهان الإسرائيلية، قال الصحفيون (بشكل غير دقيق) أن اللجنة تحمل شارون مسؤولية مذابح صبرا وشتيلا عام 1982 ، والتي أدت إلي قتل أكثر من 1700 مواطن فلسطيني مدني علي يد ميليشيات إسرائيلية لبنانية، وفي الحقيقة يوضح النص الرسمي أن شارون كان مسئولا "بشكل شخصي" .
ولكن لماذا يجب أن يهتم العرب لمصير رجل قضي السنوات الأخيرة من حياته في غيبوبة !، ولكن الحقيقة المؤلمة – كما تم التصريح مؤخرا – أن الثورات العربية أحدثت شرخا لا يوصف، وفيضانا غير مسبوق من اللاجئين، بالإضافة إلي الكارثة الاقتصادية.
وكما قال لي بائع الصحف عندما كنت في القاهرة من أسابيع قليلة :"كانت ثورة عظيمة، ولكن ما تلاها كان فظيعا" . وبالفعل كما أتوقع : يعتقد الآن ملايين العرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط أن الإطاحة برؤسائهم الطغاة الدكتاتوريين كان كارثة، لو تعني الديكتاتورية القمع السياسي والسجن المادي، إذن فالحرية تعني سفك الدماء، والفوضى، وانعدام الأمن، والحنين للطغاة السابقين .
لنتحدث بصراحة أكثر، هناك العديد من العرب ممن يرغبون في عودة الدول البوليسية القديمة مع الكثير من الفساد والعذاب، ويفضلون ذلك علي العالم الجديد الشجاع الذي – من المفترض- أن يتمناه لهم الغرب، وهم حقا يستحقون الاستمتاع به .
علي مدار سنوات طويلة أخبرني العراقيين أنهم يفضلون الأمان علي الفوضى، وقد اعتاد سائقي من بغداد أن يشكو لي أنه عندما كان يعمل سائق حافلة أثناء فترة حكم صدام، كان يعرف ما الذي يمكنه قوله، وما لا يمكنه التصريح به، ولكن الآن لا يمكنه أن يقول أي شيء، إذ انه لا يعرف آراء وتوجهات الشخص الراكب إلي جانبه. حاولت مناقشته للعدول عن رأيه علي أساس أنه سيعيش في عبودية دائمة إذا لم يعبر عن رأيه، ولكني فشلت في إقناعه .
وفي نهاية هذا الأسبوع، توجهت بالسؤال إلي وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية في لبنان، وهو واحد من أشد نقاد بشار الأسد، سألته إذا كان يتفق معي في الرأي، فأدان استعداد بعض الناس للعودة للدول البوليسية القديمة، ولم يكن جنبلاط أبدا ممن يفوتون فرصة إزهار احد المناطق وانقشاع الظلم عنها، وقد أشار إلي "أن الثورات العربية" أو الربيع العربي أدي إلي ظهور العديد من الزهور المتنوعة والفريدة مثل جبهة النصرة وغيرها من المجموعات الغريبة .
ويضيف "بفضل تغير المناخ، صار لدينا فصائل جديدة مثل المالكي، بالإضافة إلي ثمار استثنائية أخري ذات نكهة رائعة تم تصنيفها حديثا كمرسي والغنوشي".
إن ازدراء جنبلاط لكل الاتجاهات بما فيها الإسلاميين ممن يقاتلون بشار في سوريا، وأشباه الطغاة أمثال نوري المالكي بالعراق، وراشد الغنوشي في تونس، والرئيس السوري عالم النبات ... كلهم ملزمين بحماية زهور الثورة الفريدة والتي تتطلب اهتماما خاصا، ومواد مخلوطة بالفسفور .
وكعادته أنهي جنبلاط حديثه معي بخاتمة صدمتني حيث قال : "أعدك روبرت أن خطوتي القادمة ستكون وضع إكليل زهور علي قبر لورنس، واحترام ذكري بيتر اوتول، والثناء علي السيد سايكس والسيد بيكو "، لا أحتاج إلي شرح هذه الشخصيات، ولا أقصد الاستخفاف بك أيها القارئ، أما بالنسبة للورد بلفور، .. حسنا، أعتقد أنه يجب أن يكون سعيدا جدا بهذا الربيع العربي".
ربما . وذلك بسبب أنه في حين كانت إسرائيل تدفن بطلها الصهيوني، كان العرب (الذين أطاحوا بقادتهم) مشغولون إما بقتال بعضهم البعض – إلي حد الاستياء من أنصار الأمريكان والبريطانيين والفرنسيين- أو بالصلاة من أجل عودة "رجل الديمقراطية القوي"، ويسعون له بحماس شديد من أمثال دانيال بايبس، ورفقائه من المحافظين الجدد في أمريكا.
في الشرق الأوسط تفوز الجيوش، أما الرجال الضعفاء الآخرين فهم في الخفاء (مثل ما يحدث في سوريا ومصر) يقتلون في الشوارع، أو يطالبون بالتنازل عن كل الحريات التي اكتسبوها، وهو شيء مخجل للجميع .
أما "الجماهير العربية" التي تسعى إلي الحرية والكرامة، لا اعتقد أنها هربت . إن الانتصارات التي حققتها عام 2011 مازالت هناك تطارد كل المستبدين القادمين والسابقين، ولكن نسيت هذه الجماهير العربية إخوانهم الفلسطينيين.
جنبلاط محق، يجب أن يكون اللورد بلفور سعيدا حقا بهذه الثورات العربية. الآن سيكون لديه وقت طويل للدردشة عن كل شيء مع شارون، إذا كانوا معا في نفس المكان .
ـ عن صحيفة "إندبندتت" البريطانية