أخر خبر |
شارع «كريشياتيك» فى قلب مدينة كييف هو شارع التسوق والاستجمام والثقافة فى آن واحد، ففيه المقاهى اللطيفة والمطاعم المشهورة والمحال الأنيقة، وفيه أيضا أكثر من سينما ومسرح وأكثر من متجر كبير للكتب، وأكثر من متحف ومعرض للفن الرفيع، فى بدايته البانوراما التاريخية وفى نهايته دار الأوبرا، وقد كنت أقضى أوقات فراغى فى هذا الشارع متجولا بين المكتبات ومتمشيا لساعات طويلة على ضفتيه الفسيحتين، وعندما كنت أتعب أدخل دارا للسينما التسجيلية لأشاهد فيلما قصيرا وأستريح، ثم أخرج لأواصل التمشى حتى يعاودنى التعب فأدخل معرضا أو متحفا للفن.
كانت المتاحف متنوعة ومتخصصة تبعا لموضوعها أو فترة إبداعها أو المدرسة الفنية المنتمية إليها، وفى كل متحف أكثر من لوحة «أساس» لقيمتها التاريخية أو قيمة الفنان الذى أبدعها، وبعضهم فنانون عالميون، وهذه توضع فى قاعة منفردة أو فى ركن خاص وأمامها عدة مقاعد لراحة الزوار الذين يحبون التأمل ويطيلون المكوث، ومن بين هذه اللوحات كانت هناك لوحة بانورامية مقياسها يقارب مترا ونصف المتر فى ثلاثة أمتار، بعنوان «المنتصرون»، جلست أمامها وتأملتها أكثر من مرة، وها هى تعود الآن إلى ذاكرتى وكأنها تطفو من غياهب الذاكرة بكامل قوتها التعبيرية وصراخ ألوانها التى ساد بينها الأزرق الفيروزى والأحمر النارى.
تُجسِّد اللوحة مشهد ساحة معركة من معارك القرون الغابرة التى قوامها الرجال والخيول والسيوف. ومن خلال اختلاف ألوان وأشكال أزياء المتحاربين فيها نعرف أن المنهزمين يرتدون أزياء بلون الأزرق الفيروزى الملطخ بحمرة الدم القانية، والمنتصرون يرتدون أزياء بلون بنى وأشاير برتقالية. وقد انتشر المنتصرون بين جثث الخيول النازفة وأجساد المنهزمين الذين فارقوا الحياة غارقين فى دمائهم، وقد بدا المنتصرون فى حالة نشوة وحشية وجشع همجى وهم يجردون القتلى من ثيابهم ومما يحتفظون به فى جيوبهم أو حول أعناقهم، هذا يقيس سترة مكللة بالنياشين، وذاك يبدى سعادته بحذاء طويل الرقبة، وآخر يفتش فى جيوب محتضر مفزوع العينين، ولم يخلُ المنظر من منتصر ينزع عن حصان نازف سرجه ولجامه.
كانت اللوحة برغم قوتها الفنية وبلاغتها التعبيرية وحرفيتها العالية تدفع إلى النفس شعورا بالنفور، بل حتى الاشمئزاز، ولعل هذا ما أراده الفنان عن عمد، لهذا لم أكن أحب أن أمكث أمامها طويلا وإن كنت عاودت تأملها على فترات قصيرة لأكثر من مرة، فقد كانت هناك تفاصيل تُكرِّس للانطباع الذى أراد الفنان الإيحاء به، فملامح المنتصرين فيها توحش وجشع، وأصابعهم الملطخة بحمرة الدم تكاد تكون مخالب همجية لكائنات ما قبل التاريخ.
أظن أننى قرأت الرسالة التى تكتنزها هذه اللوحة، بل تتمثل لى واضحة الآن: فلحظة الانتصار المادى فى معركة أو انتخابات أو أى منافسة بشرية يمكن أن تكشف عن نبل أو وضاعة الهدف الذى حارب من أجله المنتصر، والوسائل الأخلاقية أو اللا أخلاقية التى استنها لنفسه فى النزال، كما أنها تكشف عن تحضُّر العنصر السائد فى تكوينه أو تخلفه، إنسانيته أو وحشيته، وهذه كلها يمكن أن تشير إلى رؤيته الكامنة لحدود حقوقه كما نطاق واجباته. هل سيتغول فى الأرض والناس والحياة على اعتبارها غنائم معركة، أم سينحنى تواضعا ليكبح غرور نصره، ويعرف أن الانتصار الكبير للإنسان يرتب عليه مسئوليات كبيرة تجاه الإنسانية بما فيها من هزمهم.
أى معركة فى الحياة، سواء معركة انتخابية أو حربية أو رياضية، ما هى إلا حلقة واحدة من سلسلة ستتبعها حتما حلقات، تماما كما أن الساعة التاريخية فى عمر الزمن ليست مجرد ساعة وتمر، بل هى ساعة من ساعات القدر، وليس فى التاريخ، ولا فى حياة البشر، ما يمكن أن يردها إن ضاعت، ولا يستطيع ألف عام أن يستعيد ما فوتته هذه الساعة الواحدة التى يهيل فيها المنتصرون التراب اللا أخلاقى على انتصارهم، فهى ليست مجرد ساعة، بل هى طامة قوة مدمرة تظل سنين تغلُّ طاقة انتصارهم وتشلها.
هى ساعات انتصارات مادية ممهورة بتوقيع هزائم أخلاقية. وإذا كانت الانتصارات الحربية وغير الحربية تدوم ذكراها لأجيال معدودة، فإن الهزائم الأخلاقية تظل محفورة فى ذاكرة أجيال لا عد لها. لقد انتصر من انتصر فى الانتخابات الأخيرة، ولا يستطيع عادل صادق أن يزعم أن هذا الانتصار كان وليد نبالة مطلقة أو صدق خالص أو استقامة خالية من التجاوزات الأخلاقية والخروقات القانونية. وكل هذا يمكن التغاضى عنه لأن كل من خاض هذه المعركة من كل الفرقاء وافق على المضى فيها بملابساتها والتباساتها. ومن ثم لابد من قبول النتيجة، لكن سلوك بعض المنتصرين بات يحتم فتح صفحة حساب لا غنى عنها.
وها نحن فى مساء الثلاثاء، نقف فى ساحة انتهاء الجولة الأولى من هذه الانتخابات التى ستعقبها جولتان، وإذا ببعض المنتصرين يقصفون الأمة بمدافع عدوانية تضع فى مرمى الازدراء تاريخ هذه الأمة وإرثها الثقافى وملامحها النفسية والاجتماعية والروحية المتكونة عبر طبقات الزمان: وسطيتها، آدابها، فنونها، تسامحها، تعايشها الدينى، كل هذا توهَّم بعض المغترين بانتصارهم أنهم قادرون على محوه فى ساعة واحدة من ساعات اضطراب التاريخ، سيان حصلوا عليها بالصواب أو الخطأ، مادامت الأمور فى هذه الساعة باتت تقاس بالنتيجة، وصار السؤال بعدها: ماذا أنتم فاعلون بانتصاركم؟
سؤال تعجل بعض هؤلاء المنتصرين الجدد فى الإجابة عنه بفظاظة وجهالة متغطرسة، فصار التاريخ المصرى فى غيِّهم «عفنا»! وصارت ملامح هذا التاريخ الماثلة فى صخور تذهل الدنيا بروعة نحتها عورات يجب طمسها أو «تغطيتها بالشمع»! أما أحد أعمدة الأدب المصرى الحديث الذى انحنى لإبداعه العالم ومنحه أرفع جوائز الدنيا فقد صار فى عرف هؤلاء كاتب «دعارة»! بينما الديمقراطية التى ركبها هؤلاء البعض وصولا إلى ما صاروا يتغطرسون به، فقد جحدوها لأنهم لا يعُدُّونها حراما فقط، بل «كفر» !
لقد مضى على مشاهدتى للوحة «المنتصرون» ما يقارب ربع قرن، وها أنا ذا استعيدها الآن بفضل مشهد بعض المنتصرين فى انتخاباتنا الأخيرة، فتوحى لى عدوانية هؤلاء المنتصرين فى المشهد القريب بتفسيرٍ لوحشية أولئك المنتصرين فى لوحة الحرب البعيدة، ومن هذا التفسير استنتج البشاعة المشتركة فى كليهما، وهى: الاستباحة.
منتصرو لوحة الحرب الغابرة استباحوا خصومهم فلم يراعوا للموت حرمة لأنهم اعتبروهم غير بشر، وبعض منتصرى الانتخابات الأخيرة لم يراعوا لتاريخ الأمة ولا لرموز إبداعها ولا لثمار كفاحها ولا لسمت روحها توقيرا ولا تقديرا، فاستباحوها لأنهم يرونها أمة ضالة وهم هُداتها!
مصر والله كبيرة وعارفة وصبورة، وكِبرهم صغير وجهول وعَجول، فلا خوف منهم ولا خشية، بل هم من ينبغى أن يخافوا هذه الأمة، وأن يخشوا من رب العالمين فيها، فالأيام دول.
ملحوظة: صباح الأربعاء: تحية لمصر العارفة الصبور التى أنجحت النجار وأسقطت الشحات، فى لمحتين صغيرتين عظيمتى الإضاءة، انتصارا لوسطية روحها وصدق شبابها وتحضُّر أعماقها، والقادم بإذن الله أفضل)
أحمد زويل : الثورة التي نحتاجها |
أحمد المسلماني : خريف داعية |
ركام مرصوص من الجهل : محمد العوضي |
المنتصرون : محمد المخزنجي |
محمد الساعد : رسالة إلى جمال عبدالناصر |
لا توجد تعليقات مضافة